ضوء في نهاية النفق

نحو قطبية متعددة

 

يتجه الصراع الدولي الممتد منذ “رحيل” المنظومة الإشتراكية، وتسيّد القطبية الواحدة، إلى إقامة نظام عالمي جديد؛ متعدد الأقطاب.. أكثر عدلاً وأمنا واستقرارا وعمقًا وشمولاً

بقلم: محمد شريف الجيوسي

يتجلى الصراع الدولي الممتد منذ (رحيل) المنظومة الإشتراكية، والحرب المسماة بـ (الباردة) وظهور القطب الواحد (الولايات المتحدة الأمريكية) وهو الظهور المنافي لقوانين الكون (الطبيعية والسياسية والمجتمعات) حيث تقوم على الثنائية (وحدة الخالق وثنائية المخلوقات.. أو لنقل وحدة الأضداد).

لقد شهد العالم بنتيجة القطبية الواحدة على مدى 3 عقود ونيف، ما ليس معقولاً ولا طبيعيًا، بأقصى درجات العنف والتسلط والحروب والبطش والإرهاب والتكفير والتطرف والإستغلال والفساد، والتحلل المطلق حتى شيوع وشرعنه ما هو مناف للطبيعة الإنسانية السوية الجميلة؛ إلى ما هو شاذ وضار.

(ولمزيد من الوضوح ولكي لا أفهم خطئاً، أنا لأ أتحدث هنا من رؤية إيمانية دينية، وإن كنت مؤمنا بحمد الله، وإنما من رؤية سوية علمية ديالكتيكية طبيعية بشرية).. لقد تجلت سوْءة القطبية في القطبية الأمريكية الواحدة، ليس لأنها أمريكية بالمعنى الدقيق للكلمة، وإنما لأن القطبية الواحدة، لو تجلت لدى أي كيان جغرافي وديمغرافي  آخر، فلن يكون أفضل حالاً من القطبية الأمريكية الواحدة.

لكن أمريكا، هي الدولة العظمى الوحيدة التي توفرت بالتزامن مع رحيل المنظومة الإشتراكية والإتحاد السوفييتي، على عظائم القوة اللازمة لتسيد العالم والتحول إلى القطبية الواحدة، بما لديها من مصادر القوة المالية والإقتصادية (مؤسسات رأس المال العالمية، البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) فضلاً عن القواعد العسكرية والمحطات الإستخبارية عابرة القارات والمحيطات.. وحلف النيتو والدول التابعة إستراتيجيا أو عمالة أو مصالحاً.. وهي المتحكمة بفضاء النت.. وسعر النفط، وفي قياس قيمة صرف العملات في العالم قاطبة، عدا الين الصيني، وإباحة أو حجب التعامل المصرفي عن أي دولة (عدا الصين التي لها نظامها الخاص) وغيرذلك من عظائم القوة.

لكن هذه المزايا أيضا، بقدر ما مكّنت الولايات المتحدة بتسيّد العالم، بقدر ما أطلقت يدها في سلوكيات وممارسات عنجهية عدوانية وإستفزازية وغير عقلانية تنطوي على مغامرات تدميرية للأخر وللذات كما سنرى لاحقاً، ما حقن العالم بكراهية مطلقة للولايات المتحدة الأمريكية على خلفيات متباينة، لكنها في المجمل كارهة لوشنطن ومضادة لها، ومطلقة نوعاً من الوعي العالي الراقي لدى دول كبرى كالصين وروسيا ومهمة كالهند وإيران، وكبيرة كجنوب إفريقيا، ومتحدية كـ كوبا وكوريا الديمقراطية وفنزويلا.. وأخريات كـ تركيا (وغيرها !؟)؛ رغم توفرهن على قدر من الرضوخ المتجذر والمتذبذب، لكن الصلف الأمريكي، أنشب في هذه الدول رغبة البحث عن بدائل، وآمال بظهور نظام عالمي جديد.

بهذه المعاني، ومن عميق الضرورة غير الآجلة، بدأت دول كبرى وهامة وصغرى أيضاً (من خارج صندوق النظام الحالي المتهلهل) المستند إلى القطبية الأمريكية الواحدة؛ البحث في إمكانية إقامة نظام عالمي جديد، متعدد الأقطاب، أكثر عدلاً وإستقراراً وأمناً وتقدمًا.

وكانت أولى الخطوات إلى ذلك، عقد تشاركات متعددة الأغراض، ظاهرة وباطنة، بين عديد من الدول في آسياً وإفريقيا وأمريكا اللاتينية والوسطى.. ما شكل مراكز قوة جديدة يعتد بها، رافضة لسياسات وممارسات وعدوانات وحروب وتوسع وهيمنة القطبية الواحدة وسرقتها لأرصدة الدول وثروات الشعوب؛ الأحفورية، بالوقوف بمواجهتها وإفشالها جزئياً أوكلياً، وتصويب مسارات تاريخية خاطئة، وإبعاد أخطار يحضّر لها جيداً تقترب يوما بعد آخر بإتجاه الإتحاد الروسي وبيلاروسيا، سواء شرق أوروبا أوفي وسط آسياً.. وفي مواضع ومواضيع أخرى عديدة على مستوى العالم.

في نطاق المواجهة هذه؛ تمكنت روسيا من إحباط ثورات أمريكا؛ الليلكية جنوباً، ومن إستعادة جزيرة القرم لاحقاً، وحرصت بعد الإنقلاب الأمريكي على الرئيس الأوكراني الشرعي المدرك جيداً لمصالح بلاده مع روسيا، على الحد من طموحات الإنقلابيين الأوكرانيين، حيث تمكن مواطنين روس في منطقتين بأوكرانيا؛ التخلص من غطرسة سلطاتها ومن عنصرية مليشيات مليئة بالتعصب والنزق، بإعلانهم المنطقتين جمهوريتين مستقلتين، لكن روسيا لم تشأ صب الزيت على النار، فلم تعترف بهما (حتى وقت قريب)، رغم أن ذلك يخدم من وجهة قوميةٍ روسيةٍ؛ مصالحها.

لقد كان واضحاً إستياء روسيا الشديد من الإنقلاب الأوكراني على الشرعية الصديقة، كما كان جلياً أن استعادتها؛ للقرم واستقلال المنطقتين عن أوكرانيا، أن موسكو معنية جداً بتأمين أمنها القومي غرباً، بعد الثورات الليلكية وتمدد النيتو شرقاً بإتجاه روسيا، لكن حكام أوكرانيا الانقلابيين لم يفهموا الدرس جيداً، وحرصوا بغباء  اللعب (بدمائهم) إعتمادا على الثوب الأمريكي الغربي، بأن يقيهم صدمات كل الفصول.. مقامرين بذلك بمصالح جارتهم التاريخية روسيا، بل ومصالح بلادهم لحساب القوى العميقة في أمريكا.

وبالتوازي بقيت واشنطن والإتحاد الأوربي يلعبان بالدماغ الأوكراني الضامر، عقاباً لروسيا التي أحبطت مشاريع لهما في مناطق عديدة من العالم من بينها الإسهام بتعطيل قطار مشروعهما في المحطة السورية، وما تلا من ارتدادات لهذا التعطيل.

ورغم تشابك المصالح الأوروبية مع روسيا، ووضوح مدى الضرر الذي سيصيب الإتحاد الأوروبي من رغائب أمريكا من تصعيد الأزمة الأوكرانية والنفخ فيها، وتحريضها على التصعيد ضد روسيا، ما يضر بأمن ومصالح وإقتصادات الإتحاد الأوروبي؛ السالكة والمتشابكة مع روسيا، ورغم إتضاح أن روسيا لن تساوم أو تتباطأ أو تتجاهل قواعد أمنها القومي غرباً بعد تمادي النيتو بقيادة واشنطن في التوسع شرقاً، رغم كل ذلك بقيت أوكرانيا تتصرف كدولة عظمى بقياس روسيا، كما استمر الإتحاد الأوروبي  في تصعيد الأزمة، دون إدراك أن أمن موسكو القومي، لم يعد محل خيارات بأي حال، ويحتمل كل شيء ومستعد له.

بل إن دولاً عديدة كـ الصين والهند وإيران وكوريا الديمقراطية وفنزويلا وكوبا وسورية وغيرها، وحركات ثورية مناهضة للإمبريالية؛ إقليمية وعالمية، باتت معنية بوضع حدٍ لأحادية القطبية وإقامة نظام عالمي جديد، يجري إنضاج  تفاصيله على نيران هادئة وأحيانا على نيران ساخنة، فالأمور لم تعد تحتمل إنتظاراً، فالصلف الأمريكي الغربي والرجعي العالمي والصهيوني بلغ حدوداً أكثر من حمراء تستعجل التغيير الشامل.

لقد دفعت إستفزازات حكام أوكرانيا تجاه روسيا والمواطنين الروس فيها وفي المنطقتين، إلى اعتراف موسكو بهما كجمهوريتين مستقلتين وفي قيام موسكو لاحقاً، مع استمرار التصعيد الغربي، إلى القيام بـ (عملية عسكرية خاصة)، بمعنى أنها عملية محدودة الغاية والطرف الموجهة له، هدفها وضع حد للصلف الأمريكي الأوروبي في أوكرانيا حصراً، تأمينا لأمنها القومي وحفاظاً على حياة وأمن وكرامة المواطنين الروس قي أوكرانيا والمنطقتين.

لقد حذّر المفكر العربي العالمي طلال أبوغزاله في رسالة مفتوحة، من مغبة الحرب في أوكرانيا ومن إتساعها، مشدداً بأنها حرباً غير أوكرانية في جوهرها، باعتبار أن مسبباتها لم تتوقف بل هي في إزدياد، ومن هنا رأينا كما أشار في رسالة مفتوحة ثانية، أن الحرب تتسع على شكل تحريض وتهويل ومبالغات ومقاطعات وحصارات تجارية وإقتصادية وإعلامية، ودعاوى عنصرية وتشهير، ما أضر ويضر بالمقاطِعين (بكسر الطاء) والمقاطَعين (بفتحها).. وبالإقتصاد العالمي ككل، نظراً لتشابكه..

لقد شنت موسكو عمليتها العسكرية الخاصة تحت ضغط الإصرار الأمريكي على التصعيد، و(عدم تفهم) الإتحاد الأوروبي وأوكرنيا؛ أن مصالحهما وأمنهما القومي يتسق مع روسيا وليس مع واشنطن، ولا مع النيتو؛ الذي لم يعد بذي (ضرورة) بعد رحيل المنظومة الإشتراكية وحل حلف وارسو.

كما لم يلاحظا (الإتحاد وأوكرانيا) أن واشنطن تسخّرهما لمصالحها الخاصة، وأنهما يدفعان الثمن دونها، دماءً وإقتصادات وإختلافات داخلية، وليس أمريكا البعيدة جغرافياً.. وأنها تسرقهما كما تسرق العالم بسيطرة دولارها كعملة قياس، حيث يقبض العالم أثمان منتجاته وصناعاته وخاماته، أوراقاً تسمى دولارات، لا تكلف واشنطن أكثر من الورق والأحبار التي تطبع به.

وحقيقة الأمر، أن الإتحاد الأوروبي، دولة عظمى، لكنه مجرد حديقة خلفية ومجالاً حيوياً للولايات المتحدة، لا يخرج عن طاعتها وتنفيذ ما تريد، وإن تجرأت إحدى دوله على طرح ما لا تأمر به واشنطن تحركت الشوارع ضد النظام السياسي، كما حدث عندما طرح الرئيس الفرنسي أفكاراً خجولة إعتبرتها واشنطن أنها دعوة لإستقلالية القرار الأوروبي عن الإرادة والإدارة الأمريكية ، فتشكلت ظاهرة ذوي السترات الصفراء، وتلاها (تشليحها) صفقة الغواصات النووية، التي عقدتها مع أستراليا.

ورغم ما وصل إليه الحال عالمياً، يؤكد أبوغزاله، أنه ما زال ممكنا الحيلولة دون تصعيد الصراع.. وإقامة نظام عالمي جديد، أكثر عدلاً واستقراراً وأمنا.. بجلوس أطرافه والقوى الجديدة التي فرضها الواقع  معًا، وقيام حكماء بإجتراح الحلول التي تعكس مصالح العالم واستقراره وأمنه بمن في ذلك سائر الشعوب والأمم، بما يحول دون نشوب حرب عالمية ثالثة، ولتطويق محاولات التصعيد، وإطالة أمده، في حال وجدت أطراف أن الغرق قادم على أي حال، فتعتمد التصعيد، لعلها تكون فرصة لتقليل حجم الهزيمة وتداعياتها، أو لضمان حصة في الكعكة الدولية الجديدة وإن كانت أقل شأنا من الآن، وهو ما قد نرى نموذجاً إستباقياً له بمحاولة الرئيس الفرنسي، ليّ مواقف بلاده بإتجاهٍ ظاهره الهدوء.

من المرجح أن الدول الصاعدة، لن تلجأ إلى التصعيد العنفوي، وإنما ممارسة فرصتها لتعزيز موقعها المشهود له والمقر به، فيما ستجد الدول الهابطة؛ الممسكة بالقطبية الواحدة، أنْ ليس أمامها إلا أن تستسلم، أو أن (تلعب)  لتقليل حجم الخسارة عبر التصعيد، أو المناورة كما الرئيس الفرنسي؛ لإيجاد مقعد لبلاده في النظام العالمي الجديد.

لكن الثابت الوحيد، إن سلماً أو حروبا مختلفة متتالية، أننا لا محالة أمام نظام عالمي جديد، تفرضه ضُرورة قصوى؛ أقل سوءاً مما نحن عليه الأن، يكسر قاعدة القطبية الواحدة، (الطارئة)، ويخلق نظاماً عالمياً جديداً، أبلغ وضوحاً في الرؤية، وأوسع مهاماً وإنتشاراً، وأكثر عدلاً وإستقرارا وأمنا؛ متعدد الأقطاب وله قيادة عالمية فاعله.

________________

واتس : 00962770235092

واتس : 00963981407709

جوال وواتس : 00963958947936

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى