
محمد شريف الجيوسي
كثيراً ما كتبت وتحدثت عن قضايا أمتنا العربية؛ القطري منها والقومي، ولكن لم أتحدث عن مفهومي للعروبة والوطن العربي الكبير والقومية العربية، ما هو الوطن أو ما ينبغي أن يكون عليه الفهم الدقيق للوطن والمواطنة، وما هو الموقف القومي العروبي المفترض تجاه الوطن.
وكنت قد انتهيت للتو من قراءة مقالة وجدانية موسّعة حول الوطن العربي الكبير، للمفكر العروبي الفلسطيني الدكتور طلال أبوغزاله، تعبق بالوفاء والحنين والولاء والصدقية والإرادة والتطلع المنتج المثمر للمستقبل، ما حفزني على كتابة وجهة نظري في العروبة والوطن العربي الكبير من زوايا أخرى.
أفهم الوطن؛ بمعناه الواسع ليس مجرد المكان الذي قضيت فيه ردحا من عمرك، بحجارته وشوارعه وأسواقه ومتنزهاته ومقاهيه وأماكن لهوه ومدارسه وجامعاته ومنتدياته وغير ذلك فحسب، فقد تعصف بك الأحداث للإستقرار الكئيب أو المريح في رقعة أخرى من العالم؛ لم تعش فيها من قبل، وقد تحمل لك هذه الرقعة ذكرياتٍ ما؛ يحسن بك تذكرها والحنين لها.. ومن هنا يبرز في ذهني سؤال هل الرقعة الجغرافية التي نعيش بها هي وطن، وهل المواطنة حالة فردانية أو مجتمعية؛ وطنية أو قومية أو دينية أو عرقية أو إثنية أو قبلية، هل هي مجرد الحصول على هوية مدنية ورقم وطني وجنسية ؟
بالطلبع ليس الأمر كذلك، فقد أصبح الحصول على الجنسية بل وحق المواطنة، بموجب قوانين الإستثمار في أغلب بلدان العالم، أمراً يسيراً، ينافس فيه الحاصل على جنسية أكثر المواطنين مواطنة حقيقية، أباً عن جدٍ عاشر وما قبله.
ولكن يظل يقال الذي أصله كذا عربياً، أسيويا، لاتينيا، أوروبيا، أمريكيا، إفريقيا؛ إلى ما هو أكثر تحديداً، عند التفصيلات الكبرى مدحًا أو ذماً أو بحثًا ديمغرافياً جاداً أو لأمرٍ ما، أو سوى ذلك.
لكن من وجهة نظري أن الوطن أكبر وأهم وأوسع وأكثر حدباً وملاذًا في الملمات وهو جيناتك بالمعنى الثقافي، هو موروثات وتاريخ وجغرافية مخزّنة تفاصيلها في الذاكرات المتصلة، أسبغ وأدفأ من مجرد جنسية تمنح أو تسحب واستثمار وحقيبة سفر وامتيازات ومزايا.
قد يكون الوطن فقيراً أو منعزلاً عن العالم أو صحراء قاحلة أو بيداء ثلجية، قد يكون غابة لا ترى ثراها الشمس أو غاية في الحرارة أو الرطوبة أو الجفاف.. لكن له في الدماغ والضلوع والأقدام والعيون بهجته الخاصة.
وقد يكون لـ (الوطن) معان عديدة فالمرأة وطن الرجل، وقد تكون منفاه.. والأم كما يقال في الذاكرة الشعبية “بتلم” أي أنها جامعة للأسرة الصغيرة، باعتبارها الإطار الأصغر لـ الوحدة الجامعة؛ كما هو الوطن الجامع للقوم وللشعب والأمة، وكما هي الأم (لامّة) لجماعة أو مجتمع ما صغير، الأرض مثال الأم. الوطن، هو المثال لما هو أرحب وأوسع، تبدأ بالجغرافيا البسيطة التي تلمنا، كما تلم الأم بنيها، لتكون البلدة فالبلد بأكمله؛ فالوحدة الجغرافية في حال التجزئة فالوطن الأوسع الكبير، الذي يضمنا كأمة.
وقبل الإستغراق في الجغرافية، أوضح أن أمتنا العربية ليست تكوينا عرقيا أو إثنيا أو قاريا أو دينيا أو ثقافياً أو لغويا أو مذهبياً أو طائفيا أو قبليا ؛ واحداً، إنما هي مزيج وتكوين حضاري، إنصهرت فيه إثنيات وأعراق وديمغرافيات قارية وديانات وطوائف ومذاهب ولغات وثقافات وقبائل، في كلٍ موحد إكتسب مسمى العروبة، وإن غلبت على هذا المكان أو ذاك ألوان ديمغرافية خاصة معينة.
ونظرًا لتقلبات الزمان والغلبة وأحقاب الحكم والسلطة والاحتلالات والاستعمار والنزوحات والهجرات والأطماع الخارجية نتيجة خصوصية وتعدد مزايا المنطقة العربية على مدى التاريخ، فقد تداخلت فيما بينها أصول حضارية وثقافات ولغات ولهجات وطقوس ضاربة بالقدم، ورأينا كثيراً ما تتكرر أسماء الأماكن، وتتشابه لهجات في أماكن متباعدة مسافة عن بعضها، لكنها من أرومات واحدة، أو تلتقي في أحقاب من التاريخ، باعدت بينها قديماً مصاعب التواصل، فيما بعض القريب مسافة منها ليست من ذات الجذور.
هذه المنطقة الممتدة من أقصى شمال غرب المغرب العربي بدءاً من سواحله على الأطلسي؛ فالصحراء الكبرى فشواطيء المتوسط، مروراً بوادي النيل والقرن الإفريقي حتى بلاد الشام وأقاصى العراق وشبة الجزيرة العربية وبحر العرب.. هو الوطن العربي الكبير، الذي حاولت أمريكا بعد تسيّدها العالم في أعقاب إنهيار المنظومة الإشتراكية والإتحاد السوفييتي وحلف وارسو، فصل الجزء الإفريقي منه تحت مسمى شمال إفريقيا في سعي قسري لطمس الواقع والحقيقة، وإطلاق مسمى الشرق الأوسط على الجزء الآسيوي من الوطن العربي وضامة إليه أثييوبيا وتركيا وإيران.
ورغم محاولات الغرب الحثيثة؛ بخاصة على مدى العقدين الأخيرين ونيف من الزمن؛ فصم عرى العروبة، وإغراقها بفتن الربيع (العربي) والفوضى الخلاقة، لكن جذورالحضارة العربية بقيت راسخة على مدى الزمن وامتداد الأرض.
أقول أنني أؤمن بالعروبة باعتبارها فعل حضاري متجذر وعميق وصاعد بعامة، مهما تبدت حالات شاذة وسقطات (معيبة) أحياناً، فالمسار العربي يتمتع بقدر راق وعال من الذكاء الطبيعي وحسن المبادرة والمقدرة على تصويب نفسه ذاتياً، كما الذكاء الإصطناعي، الذي أخاله إستمد هذه السجية من العروبة؛ التي رغم كل الإستهداف الذي تعرضت وتتعرض له، تعود للنهوض من تحت الرماد ومن بين الأموات، رافعة سيف محارب وقلم مبدع؛ رمح مقاتل وريشة فنان، ترس مدافعٍ وعلم منتصر، مستعيدة الزمام مستثمرة ثرواتها؛ محولة مسارات التاريخ والجغرافيا وطرق التجارة والعبور بأنواعه إلى خير للبشرية جمعاء، وواضعة حداً لاستغلال الأديان والإتجار بجوهرها والحرب بأسمائها، رافضة التطرف والإرهاب الدولي بمسمياته كافة ويافطاته الظاهر منها والخفي.
بهذه المعاني الراقية الصاعدة في خط التاريخ والحاضر والمستقبل، هي العروبة، وبهذا المعنى فأنا عروبي المحتد والثقافة والفعل والنسغ الحضاري.. ضمنها، وعلى قناعة مطلقة ويقين بيّن، أرى المستقبل قادم، وأن العروبة لن تنكفيء منتظرة تحولات الزمن، وإنما هي من ستصنع المستقبل لخيرها وخير البشرية، فمن لم تطوه الكوارث وتغيّبه الخطوب، هو من يصنع المجد التليد والحاضر الحر الجديد.
وأرى العروبة الآن تعيش لحظة تاريخية مناسبة للإنطلاق دون إنتظار، فقد إستنفد أعداؤها أسلحتهم كافة ضدها، وآيلون للسقوط سراعا، يتخبطون مفسدون في الأرض وذات بينهم، منحدرون متهافتون في مستنقعهم، فيما عالم آخر يعيش حالة صعود متصل، لا تربطه بنا عداوة أو سوء فهم، ما يفتح الطريق أمام أمتنا إعتماداً على ذاتها أولاً، وتحالفا مع كل من لا يريدها بسوء، فالطرف الآخر خارج مجتمع الحروب والعدوانات والفتن وإرهاب الدولة والسقوط.. لا يريد أحد منه بالآخر شراً أو أطماعا ونوائب وكوارث، ويمتلك في آن عناصر القوة الاقتصادية والعسكرية والديمغرافية والثقافية.
ولا بد من التنويه أن تعاضد العروبة وتولي نصيبها ودورها في العالم الجديد، لن يكون من فراغ، وإنما من سعي حثيث يقارب صناعة الزمن والحدث والتاريخ؛ فالوحدة والعدل الإجتماعي والفرداني وإطلاق روح التعاون وحسن تقاسم الثروات والدخل وتكامل القدرات والطاقات، والإبداع في إختيار الحلفاء والأصدقاء وإتقان ترتيب الأولويات وتكريس الإنتاج والمنتجين،وحملة رايات أمنه وعزه، وإعادة الإعتبار للزراعة والصناعة والحرف المشغّلة للناس والمتثبّتة لهم في أوطانهم؛ والمطلقة لعناصر الإبداع، جل ذلك ينبغي أن يكون في مقدمة الأولويات.
الوطن ليس مجرد حلم نعشق تفاصيله الجميلة فحسب، بل هو أيضاً هوية وانتماء وولاء وتضحيات وذكريات وثقافة مجتمعية سائدة ومصالح.. هو الحنان والدفء والحنين والحب والعيش المجتمعي المتصالح مع الذات الجَمْعية، والحرص على الإرتقاء بها نحو الأفضل، هو الفن الراقي الصادح والأغاني الوطنية والأجيال المتواصلة الإنتماء، هو إندماج الماضي بالحاضر المتطلع للمستقبل الأفضل، هو أصولنا الإقتصادية وثرواتنا وتطلعاتنا وهواءنا النقي وترابنا الوطني الثري ؛ الحافظ لموروثاتنا الثقافية الجمعية العزيزة والحضارية والقادرة على إكتساب كل ما هو جميل وخير ونافع.
هو الوطن المندمجة فيه تراكمات حضاراتنا المتنوعة والمتتالية زمانيا ومكانيا، وإيماناتنا وتكاملات فكرنا ورؤانا وثقافاتنا وتربيتنا، لا عنصرية ظاهرة ولا باطنة، ولا تكفيرا ولا إقصاءً سواء للجزء أو الكل، ولا خصومات بل تنافس شريف نظيف لخدمة الكل في الكل، مع الكل ولأجل الكل.
وفي الختام أستذكر وطني حبيبي الوطن الأكبر.. وموطني موطني، والعديد مما يحيي الآمال ويعزز الثقة بمستقبل الأمة، ويفعل فينا جينات الخير والعطاء والجمال وروح المواطنة ويدحض النكوص والتفرقة والتجزئة والكراهية.
